كانت فترة المرض التي مررت بها أقرب لفصل تم حذفه من فيلم سينمائي، وهكذا عاد المرء للعالم متوقعًا أن يجد أن الحياة قد انتظمت قليلاً. هنا تجد أن الأمور كما هي أو أسوأ وتكتشف أن الثورة تمر بمنعطف خطر فعلاً.والغريب أننا نكرر تقريبًا ما يحدث في تونس، واعتقادي أن هذا التعثر في الثورتين قد لعب دورًا في تعثر الثورات في باقي العالم العربي .. على الصعيد العربي ما زال القذافي وصالح جاثمين وهناك ضباب كثيف حول سوريا.
كما قلت من قبل، صارت السنجة تلعب دورًا مهمًا جدًا في الحياة اليومية. هناك دائمًا بلطجية وسنج وتخاذل للشرطة واستدعاء للجيش بعد ما يثبت البلطجية من هو الأقوى. وتسمع عن أمور غريبة بعض الشيء: مدير مستشفى المحلة يتلقى طعنة في بطنه وهو يمارس عمله.. احتلال مستشفى المطرية لعدة ساعات .. البلطجية يوزعون إعلانات عن إعدام ثلاثة أشخاص سيتم بعد صلاة الجمعة ويتم فعلاً !.. اقتحام مدارس .. استيقاف حافلات .. منافسة (تجارية) بالأسلحة النارية في وسط البلد .. كما قلت لو أقيم حفل لتوزيع دمى باربي فلسوف يظهر البلطجية المسلحون بالسنج، ولن أندهش لو رأيت شارعًا تحول لبلطجية يقومون بتثبيت بعضهم البعض ..وليس سرًا أن الكثير من ضباط الشرطة كانوا في الفترة السابقة يوزعون بطاقاتهم الشخصية على الأثرياء عارضين خدمات الحماية..
ليست المشكلة هي البلطجة، فقد كنا نتعرض للخطر الداهم قبل الثورة ولم تكن الداخلية تعين أحدًا لأنها كانت مشغولة بأمن مبارك وأسرته، وبالتأكيد لم تكن طائرات الهليوكوبتر تحلق لينزل منها رجال العمليات الخاصة المدججين ببنادق الليزر. لكن ما يثير القلق هو ازدهار روح البلطجة في النفوس .. كل إنسان صار بلطجيًا بشكل ما، ويمكن بسهولة أن تدرك ذلك لو رفعت نظرك عن الصحف قليلاً لتنظر حولك.. دعك من أن هناك 85 مليون منظر سياسي ...
ما أتحدث عنه هنا ليس محاولات النظام السابق الحثيثة لتدمير كل شيء.. ما أتحدث عنه هو محاولاتنا نحن لعمل ذلك.
في كل مصلحة حكومية هناك مدير مذعور محبوس في مكتبه يحاصره الموظفون، ويحاول الاتصال بالجيش لإخراجه. كل رئيس جامعة أو عميد تحتشد المظاهرات خارج مكتبه.. حتى تلاميذ الابتدائي يتظاهرون لإطالة الفسحة .. كم كشكًا بني بالقوة في شارعك منذ الثورة ؟.. ماذا عن السيارات التي تمشي عكس اتجاه المرور، وسيارات الميكروباص التي تقف للتحميل في منتصف الشارع. هناك رغبة عارمة في عدم احترام أي كبير أو إطاعة أي نظام .. أهل المريض يبدءون بضرب أطباء المستشفى قبل أن يفحص أحد قريبهم، والطعنة التي تلقاها مدير المستشفى كانت لأن أهل المريض طلبوا منه إحياء الميت فأخبرهم أنه لا يستطيع للأسف !
لا أحمل معزة خاصة لعمرو موسى، لكني بالتأكيد ضد الشغب الذي صار جمهور الندوات يقابله به فتشعر كأن الناس تذهب للندوة لمجرد لذة إحراجه. طبعًا قبل هذا مر البرادعي بمواقف شبيهة حتى وصل الأمر إلى قذفه بالطوب، وإن المرء ليتساءل في قلق عما سيحدث وقت انتخابات الرئاسة الفعلية ..
اقتحام المحاكم وتهديد القضاء كارثة أخرى تتكرر كثيرًا هذه الأيام، حتى أن القاضي لم يعد يأمن أن يدين المتهم كما يقضي ضميره. الشعب المصري يحمل احترامًا اصيلاً للقاضي، وكونه يتعدى عليه القاضي يدل على تغير مهول في شخصيته، حتى ولو كان جزء من المسئولية يقع على القضاء نفسه.
عدوانية فاحشة ومفترسة في التعامل مع الآخرين، ويكفي أن ترى ردود القراء في أي موقع يسمح بالتعليق على المقالات .. هذه ذئاب تتصارع وليست خواطر قراء. كنا نشكو من هذه الظاهرة من قبل لكنها تفاقمت جدًا ..
أما عن الهياج الطائفي فكارثة وحدها... حسبت أننا أزحنا هذه المشاكل إلى حين، وعرفنا من السفاح الحقيقي المستفيد من مشاعر الكراهية بين الطرفين، فإذا بالأمور تنفجر فجأة .. أحداث قنا ذات طابع طائفي لا شك فيه، ثم يبدأ مسلسل حصار الكنائس من أجل استرداد الأسيرات. كنا نعرف يقينًا أنه لو ظهرت كاميليا وأعلنت أنها مسيحية، فلسوف يقال إنها ليست هي أو تحت التهديد .. الخ.. حدث هذا السيناريو من قبل، لكن التجديد الحق كان مظاهرات في نفس يوم ظهورها من أجل أخت أخرى في إمبابة. والنتيجة: حرب أهلية بالمعنى الكامل. والسؤال هنا هو: هل هذا هو أنسب وقت لذلك ؟..
في كل مكان تتزايد المظاهرات الفئوية بلا توقف، وكلها من طراز (البت العيلة المتخرجة امبارح بتاخد 100 جنيه أكتر مني)، وصار تعبير (وقفة من أجل كذا ...) تعبيرًا يوميًا شائعًا .. مصر ما زالت منهكة تترنح وتحاول الوقوف، فلماذا ننهال عليها بالضربات ؟. ومن الواضح فعلاً أن شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) بدأ يتحول إلى (الشعب يريد تدمير مصر). هنا تبرز عقدة الكاسيت التي مر بها كل واحد منا يومًا.. الكاسيت تالف فتفككه .. تلاحق كل مسمار وكل صامولة فيه، لكنك في النهاية تجد أمامك مجموعة من الدوائر والشرائح الالكترونية فلا تعرف كيف تعيد كل شيء كما كان. لا يمكن إصلاح كل شيء مرة واحدة، ولهذا لم ألب أي نداء فئوي يدعو لـ (وقفة غدًا الساعة كذا من أجل كذا).. لأنني أشعر أن هذه خيانة للثورة.. كنت أؤمن تمامًا باستمرار المظاهرات حتى يرحل مبارك ويحاكم، لكن يجب أن يتوقف التظاهر عند هذا الحد لأن كل فرد في مصر لديه مظاهرته الخاصة التي يجد أسبابها وجيهة جدًا .. على كل حال صارت الجماهير تخلط بين الثورة والغوغائية، وبين أخذ الحق والابتزاز، والحكومة تخلط بين التسامح والرخاوة والميوعة .
أعتقد كذلك أن مشكلة المصريين مع مبارك هي عقدة الأب، هذا لو كنت تميل لهذا النوع من التفسيرات الفرويدية: الحاكم هو أبونا وهو عمدة البلد الذي يحترمه الجميع مهما فعل، حتى لو قتلهم بالسرطان والفشل الكلوي والطلقات الحية وبدد كرامتهم وباع ثرواتهم كلها. نحتاج لفترة طويلة جدًا حتى نستوعب مفهوم الحاكم الموظف الذي يتقاضى راتبه من الناس. الآن تخلص المصريون من هذا الذي أقنعهم أنه أب، وهم لا شعوريًا يرغبون في أن يتلقوا عقابهم وأن تفشل هذه التجربة .. هناك إرادة فشل غير مسبوقة لدى الذين قاموا بالثورة وهم الآن يسعون جاهدين لأن تتفتت، والدليل هذا السيل من الكلام الفارغ عن المرض والبدوية التي عبرت استحكامات الأمن لتدخل لسرير مبارك وتقبله، وكيف بكى عندما رأى الضباط وصاح (لأ .. انتو حتاخدوني السجن !)..
كنت أموت ضحكًا وأنا أقرأ عشرات التسميات التي تقال عن مرض مبارك ، بين الرجفة الأوزونية - ما دخل الأوزون هنا ؟ - ورعشة أذينية وارتجاف أذني .. الخ .. مع كلام السباعي العجيب عن انخفاض ضغط مبارك حتى صار 180/120 .. وكيف أنه كطبيب شرعي اكتشف خطأ أطباء القلب وأنقذ مبارك بمعجزة! على كل حال هناك موضة إعلامية جديدة صارت سارية هي (الخبر الذي يستعمل مرة واحدة).. كل خبر يتضح أنه خطأ وينشر تكذيب عنه بعد يوم واحد من نشره ..
أين ذهب التحرير ؟.. أين ذهبت أيدي المسيحيين المتشابكة لحماية المسلمين والعكس، والأخوة الذين يأكلون الكشري ضاحكين وقد كتبوا على العلب (كنتاكي). كما قال سارتر: لم يكن الفرنسيون أكثر حرية في يوم من الأيام منهم عندما كانوا تحت الاحتلال النازي. المصريون كانوا في أفضل حالاتهم وأكثرها أمنًا وهم ينامون في ميدان التحرير معرضين لرصاص القناصة. كان هناك معدن براق جميل يتوهج في الشمس .. المتفائلون قالوا إن هذا هو المعدن الحقيقي للشعب المصري بعد ما سقطت عنه طبقة الصدأ. لكن ما يحدث الآن يوحي بأن هذا ليس معدن الشعب المصري .. هي طبقة براقة كالتي غطتنا في أكتوبر 1973 وسرعان ما تزول ليظهر اللون الحقيقي !
كانت هناك ثورة رائعة .. لكننا نبددها بحماقة، وهذا يذكرني بما قاله هيكل عن السلاح والسياسة .. في حرب 1967 خذل السلاح السياسة بينما في 1973 خذلت السياسة السلاح . في 2011 خذل ضيق الأفق والاستعجال الثورة.
ما أخشاه هو أن تعم الفوضى فعلاً حتى يظهر الجنرال فلان أو فلان ليعلن الأحكام العرفية ويبدأ الحكم العسكري الصرف منعًا لانهيار مصر أكثر من هذا (وهناك أصوات في الشارع بدأت ترى هذا معقولاً). إن أخطر أعداء الثورة بلا جدال هو نحن !
No comments:
Post a Comment